Translate

الجمعة، 26 فبراير 2016

الإحتلال الذاتى للأُمة

الإحتلال الذاتى للأُمة

السياسة الأمريكية على المستوى الدولي تندرج تحت مبدأ ‏‏الاحتواء ( Containment) ويرى ((ناعوم شومسكى)) الكاتب والمفكر الأمريكي الشهير أن السياسة الخارجية هي الوجه المقابل للسياسة الداخلية في صناعة الموافقة، واًن السياستين متعاضدتان بحيث يلزم شحن الأمريكيين لدفع فاتورة سياسة الاحتواء الخارجية، وكل الأدلة تشير منذ الحرب العالمية الثانية إلى أن الهدف الرئيسي لسياسة الاحتواء هو زرع مفهوم الدفاع في العقل الجمعى الأمريكي ( فإن لم يكن أعداء الليبرالية شيوعيون فهم إرهابيون )، وهذا المفهوم يشكل غطاءً شرعياً لمشروع أمريكا في إدارة العالم وبناء نظام عالمي تسيطر عليه ويتم من خلاله ازدهار الأعمال الأمريكية وتشكيل منظومة عالمية تتشكل من النخبة الحاكمة (مدنية أو عسكرية) في كل بلدان العالم تؤدي مكوناتها المؤسساتية المختلفة مهاماً محددة لصالح ((الشركة الأمريكية)) سواء كمراكز تصنيع أو كأسواق استهلاك أو كمصادر للطاقة والمواد الخام واستخدام تلك النخبة في تغيير عقائد جيوشها وتحويلها إلى كيانات إقتصادية ضخمة يصعب معها التنازل عنها حتى للدولة ، بل تستخدم تلك النخبة في تغيير العقائد الدينية لشعوبها تحت مسميات تجديد الخطاب الدينى، وما النموذج المصرى منا ببعيد .

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الإشتراكية هللت الدعاية الإعلامية والفكرية الأمريكية والتابعة لها في كل مكان لانتصار النموذج الرأسمالى  وقامت  بتمجيد هذا النموذج باعتباره الأوحد والأخير في تاريخ البشرية القادر عل تحقيق رفاهية الإنسان (نهاية التارخ: لفوكوياما)! فالرأسمالية اليابانية تتعثر نتيجة تدخل الدولة في توجيه المسار الاقتصادي، ونموذج دول جنوب شرق آسيا واجه أزمة ٩٩٧ ١ بسبب عدم صلاحية الحكومة ، ولأسباب أخرى لم تذكر عندما كانت نفس آلة الدعاية تتحدث عن المعجزة الآسيوية، والنمور الآسيوية، كما أن النموذج الرأسمالي الأوروبي غير قادر على المنافسة والابتكار نتيجة إتباعه سياسات الضمان الاجتماعي وحماية حقوق العمال؛ ولقد أدى تنامي المهللون للنظام الاقتصادي الأمريكي إلى تدخل الدولة المستمر لمساندة قطاع الأعمال وخاصة منظومة الشركات الكبرى منذ أزمة الكساد الأعظم عام ٩٢٩ ١ وحتى تاريخه، ولقد نجحت الولايات المتحدة في تحقيق أعلى مستوى تاريخي من السيطرة السياسية      والاقتصادية عندما كان معظم دول العالم المتقدم تحت الأنقاض بعد الحرب العالمية الثانية، وأعطت الأولوية المطلقة لاحتواء ألمانيا واليابان داخل نظام عالمي تتحكم فيه قطاعات مالية وصناعية مرتبطة مباشرة بمصالح ((الشركة الأمريكية Corporate America))، وبالتالي انهالت الإستثمارات الأمريكية على أوروبا الغربية من خلال مشروع مارشال، وفي عام ١ ٩٧ ١ وعند ظهور بوادر تنافسية من أوروبا واليابان، أعلن الرئيس نيكسون عن السياسة الأمريكية الجديدة وذلك بحل النظام الاقتصادي العالمي القائم (نظام بريتون وودز) الذي أسس عقب الحرب العالمية الثانية والذي لعبت فيه الولايات المتحدة دور المصرف العالمي ولعب الدولار دور العملة العالمية الوحيدة والتي يتم تحويلها بسعر ثابت ٣٥ دولاراً لأونصة الذهب، ولقد كان نيكسون في رده على اهتزاز الهيمنة الاقتصادية الأمريكية حاسماً: ((عندما تخسر عليك أن تُغير من قواعد اللعبة)) وقام  نيكسون برفع غطاء الذهب عن العملة الأمريكية.                                                           

وأدي هذا التحلل من القواعد السابقة إلى نمو عشوائي للاقتصاد الدولي، والي تحقيق ميزة هائلة للمنظومة المالية والصناعية الأمريكية للتحرك عبر العالم دون أية قيود، وتوسعت أسواق المال العالمية نتيجة لذلك، وأيضاً نتيجة للتدفق الهائل لأموال البترول العربية بعد ارتفاع أسعار النفط عام ٤ ٩٧ ١ أعقاب حرب أكتوبر المجيدة، ولبدايات ثورة الاتصالات والمعلومات التي يسرت سرعة انتقال الأموال، ولجأت المصارف العالمية المرتبطة بالمصالح الأمريكية إلى تشجيع إقراض الدول مما أدى إلى أزمة القروض الدولية للعالم الثالث كما هو معروف، ولقد ساهم ارتفاع سعر النفط - والذي صاحبه أيضاً ارتفاع أسعار الفحم الأمريكي واليورانيوم والمنتجات الزراعية الأمريكية - في تحقيق أرباح طائلة للشركات الأمريكية والإنجليزية العاملة في مجال الطاقة وفي توجيه استثماراتها لاستخراج البترول من مناطق ألاسكا وبحر الشمال عالية التكلفة، وتمكنت الإدارة الأمريكية من التغلب على العجز الناجم عن فاتورة النفط المستورد عن طريق صادرات غير مسبوقة في مجال توريد السلاح للشرق الأوسط وخاصة العالم العربى والذى كان مبعثه الأول الكيان الصهيوني المزروع من قبل تلك المنظومة الأخطبوطية وكذلك بناء المشروعات العملاقة غير الإنتاجية في الخليج العربي بواسطة الشركات الأمريكية.

إن الأمثلة عديدة لهذا التشابك الأخطبوطي بين الإدارة الأمريكية والشركات الكبرى: من برنامج ((الغذاء للسلام Food for peace)) والذي حدد السناتور ((هيوبرت هامفري» في ذلك الوقت أهدافه بدعم الشركات الزراعية الأمريكية من جهة وترسيخ اعتماد الآخرين على الغذاء الأمريكي من جهة أخرى، ومروراً بخطط ريجان لإنقاذ شركة كرايسلر للسيارات وبنك كونتننتال - اللينوي وتعويض المؤسسات المالية التي تضررت من فضيحة توظيف الأموال في أواخر الثمانينيات ((s, L Scandal)) وكل ذلك من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين! وكما قام الرئيس بوش الأب - عند نهاية الحرب الباردة - بإنشاء ما يسمى ((Center for defenes trade)) لترويج بيع السلاح حول العالم، ونجح المركز في رفع مبيعات الشركات الأمريكية من السلاح من ٢ ١ مليار دولار في عام ٩٨٩ ١ إلى قرابة ٠ ٤ مليار دولار في عام ١ ٩٩ ١ ! وقد كان ذلك من خلال تأجيج الصراعات الإثنية والإقليمية والداخلية في مناطق شتى من العالم.

وتسعى الإدارة الأمريكية إلى تقسيم العالم إلى مناطق اقتصادية نوعية تخدم كل منها على حده أغراض الشركات الأمريكية (فنزويلا والمكسيك والخلج للنفط، أمريكا الوسطى والكاريبي للعمالة الرخيصة وتجميع المنتجات، الصين للاستهلاك ...)، وكما سعت من خلال مجموعة السبعة (ثمانية حاليا) الدول الصناعية الكبرى وصندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية إلى إنشاء منظومة لحكم العالم بشكل غير مباشر أعطيت فيها للنخب السياسية ورجال الأعمال وقادة الرأي في العالم النامي حق المشاركة فيها والاستفادة منها بشرط الدفاع عن الليبرالية بالمفهوم الأمريكي، وطلب من أكثر من مائة دولة من العالم الثالث فتح أسواقها أمام الشركات متعددة الجنسيات والابتعاد عن السياسات المساندة للقطاع الاقتصادي الوطني تحت شعار ((حرية التجارة)) والذي كانت له آثار مدمرة على اقتصاديات الدول في أمريكا اللاتينية وهروب الأموال من روسيا  والتي قدرت ما بين ٤ ١ إلى ١٩ مليار دولار في عام ١٩٩١ وحده. وعلى ازدياد حالات الفقر والاضطراب الاجتماعي في كل الدول التي أخذت بمبادئ اليمين المتطرف في فتح أسواق المال دون قيود وبمبادئ الأصولية الاقتصادية ( دعه يفعل - دعه يمر) واللافت للنظر أن الإدارة الأمريكية التي تطالب بسياسات للتجارة الحرة لم تطبق هي نفسها أيٌّ من هذه السياسات في جميع مراحل التطور الاقتصادي الأمريكي، وكما أن كل حلفائها في الغرب والشرق لم يتبعوا أيٌّ من هذه التوجهات في تحقيق تقدمهم ونمو اقتصادهم، والغريب أن تقرير الأمم المتحدة الأخير - والذي يتناول تجربة ٨٠ دولة انتقلت إلى الديمقراطية - أثار العديد من التساؤلات والتعليقات حول عدم رضا الشعوب عن هذا التحول وكأن ألسبب هو في التطبيق الديمقراطي! بينما لم يذكر السبب الرئيسي للفشل ألا وهو السياسات الاقتصادية الليبرالية المفروضة من قبل صندوق النقد الدولى التي صاحبت التحول الديمقراطي في هذه الدول.

إن ما يريده النظام الأمريكي في حقيقة الأمر ليس هو التجارة الحرة؛ بل هو احتكار المستقبل لصالح منظمة ((الشركة الأمريكية)) في حرية دخول الأسواق واستغلال الموارد واحتكار التكنولوجيا والاستثمار والإنتاج العالمي، فهي تطالب الشركات بحقوق الملكية في مجال الدواء والزراعة (البذور، المبيدات ... الخ) والتي سيدفع ثمنها الفقراء في الدول النامية متجاهلة الأرباح التي تحققها شركاتها من خلال الحصول ((مجانأ)) على أسرار أدوية الأعشاب وطرق العلاج الطبيعية الأخرى التي تراكمت خبراتها لدى العالم النامي عبر مئات السنين، متناسية أن الدول المتقدمة لم تطبق نظم براءة الاختراع في مجال الدواء إلا حديثاً(إيطاليا في عام ٩٨٢ ١ واليابان في عام ٩٧٦ ١ وألمانيا في عام ٩٦٦ ١ ) بل إن الولايات المتحدة نفسها رفضت في القرن التاسع عشر دعاوي حقوق الملكية بحجة اًنها ستعوق التطور الاقتصادي؟.
ولا يقتصر ارتباط الدولة في أمريكا مع الشركات الكبرى على الجانب الاقتصادي، فهناك الجانب السياسي المرئي وغير المرئي، مثل تبادل أفراد النخبة المراكز العليا (ماكنمارا وشولترز وتشيني وغيرهم) في الدولة والشركات، ومثل مساندة الديكتاتوريات (سوهارتو - بارك - بنيوشيه - موبوتو -مبارك-السيسى وغيرهم) التي ارتبطت مصالحها بالشركات الأمريكية الكبرى، وعندما قضت الديكتاتورية في جنوب كوريا عل الحركة الديمقراطية في عام ٠ ٩٨ ١ بادر الرئيس كارتر - بعد أيام معدودة - بإيفاد رئيس بنك التصدير والاستيراد الأمريكي إلى سول لطمأنة ( العسكر )على المساندة الاقتصادية الأمريكية وصرف ٠ ٠ ٦مليون دولار كقرض عاجل ،وهذا ما حدث ايضاً بعد الإنقلاب في مصر من التأكيد في الكونجرس الأمريكي على ضرورة صرف المعونات الأمريكية للجيش المصرى حتى مع مخالفة ذلك للقانون والذى يمكن التحايل عليه بتعديل التوصيف لما حدث في مصر بالرغم من خروج أصوات من الكونجرس رافضة لذلك ولكنها قليلة وضعيفة في مواجهة كارتل المصالح واللوبى الصهيوني،والذى تم بموجبه الإفراج عن المعونة المالية وصفقة الأباتشى كما تمنى قائد الإنقلاب. هذا علاوة عل التصدي المستمر لكل الأنظمة الوطنية التي يتعارض توجهها الوطنى مع مبادئ اللييرالية للنخبة الأمريكية المتحكمة عالميا .

هناك تعليق واحد:

Blogger Template by Clairvo